يؤدي عدم تاريخانية الإسلامية الى أيديولوجية العدم

تقلب  هذه المشاهد المهولة التي تنبع كل يوم من مناطق الحروب في سوريا والعراق تلك الحكاية المألوفة التي تروج في العالم منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. بحسب واشنطن وبروكسل تغلب  البشرية على سطوة الإيديولوجيات وحتمية المنازع مع نهاية الحرب البارد. ولكن بقيت هذه الفترة الهادئة فترةً مؤقتةً حتى رزح العالم مرة ثانية تحت تأثير حكايات جديدة التي تزعم ان بوسعها تأويل طبع الواقعية ومغزي الحياة وحتى معني التاريخ. بمرافقة هذه الإيديولوجيات الجديدة نشاهد رجوع الخلافات القديمة أيضاً. ولكن كلما تبلورت هذه الايديولوجيات في برامج سياسية اتضحت بأن الانسان لم يسافر الى  أراضى فكرية جديدة ومنتجة؛ على العكس تماماً  قد رجع الى بلد الابلد وخضر الخادر.
نشاهد اليوم في العالم الحديث رجوع العقائد مستوحي من أظلم اركان القسوة والاستبداد. إيديولوجية الليبرالية الجديدة مثلاً التي  تعظ اللامبالاة ازاء الغبن والسخرة كما يعظها الاميرات الذين  يبنيون الملاعب لكرة القدم في الدوحة على ظهور العمالة الوافدة. إيديولوجية الطمع والإستغلال كما يعظها القياصرة المالية في أبراجهم  فوق وول ستريت. ونشاهد أيضاً إنعاش العقائدة الدينية الرجعية  في كل مكان، في سياسة مودي في الهند وفي عصيان كيم دايفس في كنتكي. وأبرز مظاهرات هذا الورع  الملفق هي  ظهور داعش بأبهته السخيفة وشعاراته العتيقة. إذن لماذا فشلت الحداثة في "إزاح هالات السحر والشعوذة"؟(العودات ٥٠) أين اختفت وعود النظرية الوضعية بنسبة لتوقعات مستقبلاً مشرقاً؟ الى أين تؤدي بنا التاريخ؟
هل تستجيب قراءات الاسابيع الثلاثة السابقة هذا الاستفهام؟ أعتقد ان تتيح محاولة حسين العودات لتصنيف التيارات الفكرية في العالم العربية نظرة ثاقبة الى اسباب قدرة هذه الافكار الباطلة على استمرار في تأثير قرارات سياسية اليوم، خصوصاً بنسبة للإيديولوجية الاسلامية — لا شك ان حافز اعمال من ينسب بالايديولوجية الليبرالية الجديدة هو الطمع بكل بساطة.
من بين أهم المميزات التي تفصل تيار الفكرية الوضعية - الليبرالية والقومية والاشتراكية - والتيار الإسلامية هي تصور ماهية التاريخ. تزعم كل الإيديولوجيات الوضعية ان تتحرك التاريخ البشري بشكل تراكمي وانه غير محدد بنسبة لإمكانية التطور. بيد ان الإيديولوجية الإسلامية "(ت)قوم بمهمة تصفيةالماضي وتجديد التراث القديم"(العودات ٥٨). التاريخانية بحسب تيار الفكري الإسلامي — ونعتراف بسمة التعميمية في هذا القول —  هي ليست موجود بالمعنى المألوف
كما نستطيع ان نرى في كتابة الشيخ محمد عبده، تصيغ كل الخطابات الإسلامية، حتى الاكثر منها بليغاً ومحكماً، مفهوم التاريخ الذي يعتمد على صورتين: المجتمع الصالح والمجتمع الفاسد. بإعبارة أخرى: عصر الذهبي وعصر الإنحطاط. ولكن لا تطابق هذا التصور باي بُعد مادي او اي عنصر فعلي في التاريخ نفسه ولذلك لا يتفق حتى الاسلاميون مع أنفسهم عمما هو المجتمع المثالي بضبط. بالإضافة الى ذلك، ليس بوسع الانسان ان يبني مجتمع مفضل على اساس ما كان موجود في الماضي المبهم.  بنسبة للإيديولوجية الاسلامية، لا يحرك التاريخ إلا بين محور التقوى ومحور الكفر. التقدم هو الرجوع والتطور هو التقليد. كما نشاهد في وصف محمد عبده كلام الجامدين "فلا فائدة في السعي ولا ثمرة للعمل فلا حركة إلا الى العدم" (عبده ٣٣٢). لا بد ان يحاول عبده ان يقوم بتقويض هذا نوع من التفكر من أجل أعادة بناء إسلاماً ايجابياً ولكن اختراحه هو بالفعل الرجوع الى مصادر الأصالة (القرآن) أيضاً بدلاً من الابكار والنهضة بدون سابقة لا في تاريخ  الانسان ولا في تاريخ الفكر نفسه. ولكن هذا لا ينفع. كما يقول اينشتاين: "لا نستطيع ان نحلّ المشاكل بواسطة نفس مذهب التفكر الذي خلقها في المقام الأول".

أريد ان أركز على كلمة معينة التي يشير اليها محمد عبده في انتقاده الجامدن "العدم". يذكرنا بمبدأ العدمية (نيهاليزم).انا أعتقد ان أية أيديولوجية التي تلجأ الى ماضي متخيل من أجل القاء حل المشاكل المعاصرة هي بمثابة الايديولوجية العدمية. اية ايديولوجية بدون تاريخانية التي تمنح لإمكانية الغير معروف هي ليست تاريخانية. هي ليس غير حنين مفلس وحرمان امكانية الانسان.

Comments

Popular Posts