لغة الشعب والأدب الملتزم
مقدمة
"انا...ممن يؤمنون بهذه النظرية الأخيرة في الأدب: انه فعل خلق فردي، ولكن بمادة اجتماعية لا ميتافيزيقية، مادة تنبع من الحياة الشعبية المتحركة المتجددة، لتجعلها أعمق وعياً في تحركها وتجددها." (خوري ٩٧)
كتب هذه الكلمات رئيف خوري وهو واحد من أبرز المفكرين في مجال النقد الأدبي في بداية القرن العشرين وأهم المشاركين في النقاش المشهور عن دور الكتابة في سبيل الاهداف السياسية، أو ما يُسمى بالأدب الملتزم. ولكن هذه الجملة مجرد مقتطف قصير من خطبة مطولة قدمها خوري في مؤتمر اليونيسكو في سنة ١٩٥٥ الذي تناول موضوع الأدب الملتزم ومسألة مسؤولية الكاتب في العالم العربي. إضافة الى هذه الشهادة بالأدب الحى، زعم خوري ايضاً في خطبة عنوانها "الأديب يكتب للكافة" انّ غرض الفن، والرواية المعاصرة على وجه التحديد، هو تحسين حياة الإنسان بواسطة تبليغ رسالة تقدمية عن الحرية والعدالة والاشتراكية. ولكن تعبيره عن هذه الأفكار الهامة ووعظ جمهوره عن مسؤولية الفنان لخلق أدب حقيقي ومباشر وذات صلة للشعب، اعتمد خوري على لغة فصيحة وأسلوب بليغ . ولم يجد هذا الشعب في القاعة خلال هذه الخطبة، فلذلك من الأرجح ان خوري لم يدرك المفارقة بإستخدام أسلوب متغطرس لم تفهمه سوى النخبة الموجودة في القاعة. وكما سنلاحظ في ما بعد، التوتر بين البلاغة الأدبية والنجاح في تمثيل الشعب ليس أشكالية محددة للأدباء المطنبين فقط، بل هو بالذات محط جدل أساسي في النقاش الدولي عن الأدب الملتزم.
يمثّل نشر كتاب جون بول سارتر "ما هو الأدب؟" ذروة لحركة الأدب الملتزم التي ازدهرت في وسط القرن العشرين وساهمت في ترويج أفكار عن التزاوج بين الفن، والرواية بشكل خاص، وبين النضال السياسي للعدالة والحرية. وشارك في هذه الحركة كثير من المفكرين اليساريين في سياقات متعددة، مثل جورجي لوكاتش وبرتولد بريخت في المانيا والمجادل بينهما حول كيفية أثار وعي سياسي في الشعب بواسطة الفن، وكتابة أدورنو عن تهديد الثقافة الشعبية بينما دعمها والتر بينيامين بسبب امكانياتها الثورية، وقرار مجلس الكتاب السوفيات برعاية الواقعية الإجتماعية كالجنس الأدبي المثالي لتمثيل المجتمع الشيوعي.
ولكن لم يتم تداول هذه الافكار في أوروبا فحسب انما راجت في الشرق الأوسط أيضاً، وفي المجلات الأدبية في الدول العربية على وجه التحديد. على سبيل المثال، قدّم أدباء مشهورون مثل لويس عوض ورئيف خوري وسلامة موسى نظرياتهم عن الأدب الملتزم والكتابة للشعب في مقالات ومقابلات في وسائل الاعلام وحتى في كتب نظرية كاملة عالجت هذه المواضيع بشكل مفصل، ناهيك عن استخدام هؤلاء المفكرين هذه النظريات مبدأً عملياً في أعمالهم الأدبية. وإضافة الى ذلك، لعبت مجلات مثل "الآداب" البيروتية دور المضيف لكثير من هذه المجادلات والمناقشات التي حاولت ان تخلق معايير للأدب الذي سيكون مناسبة للعالم الحديث الذي يعاني من التسييس في كل جوانبه بسبب الحرب الباردة. في هذه البيئة المتوترة رزح أي كاتب سعى ان يكون مستقلاً في خلق فنه تحت الاستقطاب والتعصب. في الأربعينات والخمسينات لم تنفلت أية رواية من الاعتبار بحسب قيمتها الإجتماعية ورسالتها السياسية. وبسبب هيمنة مذهب الإلتزام على المعايير الفنية والجمالية في المجال الأدبي خلال زمان طويل، أطرت أفكاره حدود النقاش في الأوساط الأدبية وأثرت على جيل من الكتاب العرب. في ظواهره الأكثر تطرفاً، اصبح النقد الأدبي بإسم الالتزام السياسي نوعاً من المطاردة السياسية المبتذلة. وعلى سبيل المثال، في كتابة المفكر الشيوعي عبد العظيم أنيس مقال ساخر عن نجيب محفوظ يلخص أعمال الكاتب المصري المشهور والفائز ل بجائزة نوبل بهذه الكلمات: "نجيب محفوظ إذن هو المعبر عن مأساة البورجوازية الصغيرة في المرحلة الثانية للكفاح الوطني، وهو يحرك نماذجه البشرية في اطار هذه الطبقة الاجتماعية ويحملها أوهامها وفرديتها، ويضع على اكتافها كل اوزارها وتناقضاتها." (أنيس ١١٨) في رأي الأديب الملتزم، لم يكفِ انْ تكون الرواية جميلة او مثيرة للإهتمام؛ كان يجب عليها أن ْ تدافع عن إيديولوجية معينة أيضاً وإذا لم تعترف بعقيدة معينة فعلى الأرجح انها تعكس قيم طبقية بشكل غير وعي.
فإذا المضمون السياسي موجود داخل الروايات كان مهم بالنسبة للأدباء ومحط انتقاداتهم المستمرة، فكان الشكل الجمالي حامل التأثير ومسببة المناقشة أيضاً . لم يقتصر النقاش في اوروبا والعالم العربي على مضمون الأعمال الأدبية وآراء الأدباء السياسية بدون ان يسأل ايضاً عن الاشكال الأدبية والممارسات السردية الأنسب بالنسبة للأدب الملتزم. ولكن من المستغرب جداً أنه على الرغم من كثرة المناقشات كان هناك إتفاق جماعي في الرأي بالنسبة لهذا السؤال، أو على الأقل من بين عدد كبير من المفكرين واليساريين. كانت الـ"واقعية" هي الجنس الأدبي المفضل في سبيل كتابة الرواية الملتزمة، بغض النظر عن انه لم يكون في أي وسط فكري تعريف دقيق لمعنى"الواقعية". فبدلاً من نموذج مفصل لشروط هذا الجنس الأدبي، اعتمدت الدعوة لأعمال واقعية على أسبقية أرباب الواقعية مثل ليو تولستوي وهونور دا بلزك واميل زولا. إذن، محاولة ترويج الواقعية كالجنس الأدبي المفضل كانت مبنية على أمثلة كتاب مشهورين وبدون المحاولة لخلق مجموعة من الممارسات السردية المشتركة وبدون النظر الى خصائص التقاليد الأدبية لكل البلدان والثقافات المختلفة.
|
|
ولكن إذا كنا لا نستطيع ان نحدد معايير جمالية مشتركة للأدب الملتزم غير الدعوة المبهمة للواقعية المبنية على نموذج كتاب ذوي أراء سياسية متباينة، الى أي حد نستطيع ان نعتبر الحركة الأدبية التي دعيت لخلق أعمال ملتزمة كظاهرة دولية؟احياناً أشارت المجلات العربية الى مناقشات متشابهة في أوروبا عن الأدب الملتزم -- لعب سارتر مثلاً دور الشخصية الجديرة بالجدل لهؤلاء المفكرين العرب -- ولكن في معظم الاوقات تناولت المجلات هذا الموضوع بغض النظر عن مناقشات سابقة وخارجة السياق العربي. تحدث الأدباء عن مبادئ الواقعية وقيم الكاتب المسؤول كأن قضية الأدب الملتزم هي إشكالية خاصة للنطاق اللغة العربية، حتى لو كرّروا نفس المجادلات وقلّدوا نفس النظريات التي كانت موجودة ايضاً في الغرب في ذلك العصر . ولا شك ان لكل ثقافة مشاكلها المعينة فيما يتعلق بالتراث الأدبي وخصائصها بالنسبة للغتها القومية، ولم يكفِ إقتباس معايير جمالية من ثقافة أخرى لأن لكل ثقافة مسألاتها الفنية والسياسية والإخلاقية الخاصة. ولكن الى أي حد اشتركت هذه الحركات الدولية مع نفس المعايير للأدب الملتزم او المسؤول أو ما كان بالنسبة لشكله المثالي ومضمونه الملائم وهل اتفقت مع بعض حول كيفية تقدير الروايات من وجهة النظرالقيم الجمالية واستخدامها اللغة بشكل فعّال؟ أو هل اختلفت القيم النقدية لهذه المذاهب الأدبية بحسب اللغة المعينة الذي تُكتب الروايات فيها وبحسب والمجتمع وثقافته التي تعكسها؟
عندما يقول أديب ملتزم في مجلة الآداب مثلاً انه من المستحسن انْ يكون الأدب تصوراً حقيقياً للواقع وانْ يبلّغ الكاتب رسالته مباشرة الى الشعب، كيف تساهم خصائص وسيلة الكاتب، وهذه هي اللغة بالذات، في نجاح العمل الفني؟ هل يدرك الكاتب أهمية اللغة كمادة الكتابة الاساسية ويأخذ موقف معين بالنسبة للأسلوب مثل تشجيع وجود التنوع في اللغة أو هل يدعم المحافظة على روح تقليدي فيما يتعلق بالبلاغة وجمالية الكتابة. وما هو رأيه عن لغة الشعب، هذا الشعب الذي يزعم انه يكتب باسمهم؟ هل يمدح الشعب ولغته المتحركة المتجددة ومع ذلك يمحو خصائص الكلام بالعامية ويرفض أن يمثّل نمط كلام الشعب ويترجمه الى الفصحى الجافة؟ هل كان الموقف فعلاً كما صوّره المفكر عبد الحميد يونس في مقالة اسمها "اللغة والحياة" في مجلة الآداب
“إن اللغة الأدبية الرسمية في واد، والحياة الاجتماعية الممتدة في الزمان والمكان في واد آخر." (عبد الحميد يونس ١٣)
ومحصل كل هذه الأسئلة هو سؤال آخر: ما البُعد الميتا-لغوي (ما بعد اللغة، إدراك مادية اللغة وتأثيرها على مضمون النص) في خطاب الناقد العربي عن دور اللغة في الأدب الملتزم في وسط القرن العشرين؟ هذا البعد مهم للنقاش عن الأدب الملتزم لأن كل لغة تواجه صعوبات عندما يتعلق الأمر بتصوير المجتمع والطبقات الإجتماعية بواسطة اللغة. وهذا لأن اللغة العربية لا تميز من اللغة الفرنسية أو اللغة الروسية بقدرتها على تصوير الواقع بشكل حقيقي انما بالايديولوجية التي تسيطر عليها وتحدد قدرتها على تصوير الواقع الاجتماعي بلهجاتها وانماطها الكلام الخاصة التي تُمحى بسبب التقييس والميل الى استخدام الفصحى. ولذلك تعاني اللغة العربية المعاصرة من إيديولوجيات متنوعة بالإضافة الى الإيديولوجية السياسة بالمعنى التقليدي ولا بد لكل واحدة منها ان تتفاعل وتتناقض. أنوي في ما بعد ان أشير الى امثلة لهذا التفاعل والتناقض ما بين إيديولوجية الأدب الملتزم وإيديولوجية اللغوية في نصوص أدباء بارزين لكي أدل على أهمية الخصائص اللغوية في تأطير الخطاب عن الأدب الملتزم في العالم العربي. نريد ان ننظر الى امثلة اعترافات هؤلاء الأدباء بالتنوع في العربية والعلاقة بين الاساليب اللغوية والطبقات الإجتماعية. ونجد في كتاباتهم محاولة لتسوية الاختلافات في الانماط اللغوية والتقسيمات الاجتماعية.
بمساعدة بعض الامثلة أعتقد اننا نستطيع ان نثبت على مركزية اللغة والاسلوب داخل خطاب الأدب الملتزم لأن يجب التفكير في البعد اللغوي كلما يساءل اسئلة مثل: كيف يجب ان يتصور الكاتب الطبقات الاجتماعية؟ لمنَ يكتب الأديب وما هو انسب الاسلوب لمخاطبتهم؟ وكيف يستطيع الأديب ان يرفع وعي الشعب؟ تأتي الامثلة التالية من مجالات ثلاث مختلفة من حركة الأدب الملتزم: مقالة نقدية عن كاتب مشهور، كتاب نظرية عن الأدب للشعب، وكتابة شعرية ابداعية تحاول تكسر قيود التقليد. من المستحسن ان نتذكر ان لا يُحدد مجال النتاج الأدبي الى الأعمال الأدبية فحسب، بل ان النقد والنظرية هما عنصران اساسيان في عملية الخلق الابداعي كما هما مهمان في النضال السياسية.
النقد: أنيس والعالم واللغة في كتابة محفوظ
كان عبد العظيم أنيس ومحمد أمين العالم من بين أبرز المنظرين الماركسيين والنقاد الأدبيين خلال القرن العشرين ويُعتبر كتابهما “في الثقافة المصرية” حجر الأساس في النقد الواقعية الاشتراكية في العالم العربي. يتناول أنيس والعالم في كثير من المقالات مجودة في هذا الكتاب مواضيع مرتبطة باللغة ودورها في خلق أعمال أدبية تعكس واقع الحياة الاجتماعية. مثلاً، في مقالهما “في الأدب الواقعي” يقدمان تعريف عام للأدب الواقعي - والجدير بالذكر هنا ان يشابه هذا التعريف تماماً ماذا يقول لوكاتش في كتابه “الرواية التاريخية” بشأن الواقعية وخصوصاً بالنسبة لمفهوم “الكمال الاجتماعي” لكي نشير مرة آخرى الى نقاط التوافق بين المناقشات الدولية المختلفة - و هو ان يجب ان الكاتب الواقعي يقدم “نظرة متكاملة الى العالم الذي يحيى في داخله” (أنيس ٣٢). يتكون المجتمع من مواقف ثقافية مختلفة وطبقات اقتصادية متعددة ولذلك لا بد ان تدرك رواية ناجحة المجتمع بكل تعقده وعمقه وتنوعه داخل تصوير شامل.
ولكن هذا ليس الحال بالنسبة لنجيب محفوظ. كما لاحظنا في المقدمة، ينتقد المنظر أنيس الكاتب المصري المشهور انتقاداً شديداً بسبب قيمه البورجوازية الصغيرة ونظرته الغير ثورية، ويركز وخصوصاً على اسلوب محفوظ لأنه دليل علي هذه القيم. مثلاً في مقالة بعنوانه“وقفة عند نجيب محفوظ” يصف أنيس كيف يستخدم محفوظ اللغة بشكل محدد وكيف هذا الاسلوب يكشف عن منظوره الطبقي. يزعم أنيس ان رفض محفوظ استخدام العامية وانماط الكلام الشعبية في روايته “زقاق المدق” هو دليل على عدم فهمه لمنظور طبقة العمال وفشل محاولته لتصوير الواقع الاجتماعي.
كتب محفوظ رواية تصور سكان حى منعزل في القاهرة بكل خصائصهم الكريمة وميزاتهم الحقيرة بفضل تجربته الشخصية في وسط المدينة في زمان شبابه ولكن برغم مهارته السردية ومعرفته مما قد راي بأم عينه ولمس لمس اليد يصرّ محفوظ في كتابه “على ادارة الحوار باللغة العربية الفصحى”(أنيس ٢٢٢). أي تصوير واقعي والشخصيات تتكلم بلغة مكتوبة؟ في عيون أنيس، الفصحى مناسبة لصوت الراوي وللوصف السردي بسبب عمق معجمها ودقة تعبيرها ولكن في نفس الوقت العامية انسب لاصوات الاشخاص عندما يعبرون عن شعورهم ومشغلتهم الحميمة.
”أن الحوار بالعامية أتاح للشخصيات مزيد من الصدق في التعبير عن ذواتها” (أنيس ٢٢٣)
بحسب أنيس والعالم العامية أكثر لياقةً للحوار والمنولوج الداخلي لأنها أقرب الى كلام الشعب الحقيقية بمقارنة مع الفصحى التي تبدو “مثقل بالتصنع والبراعة” (أنيس ٢٢٢) إذا تنبعث من أفواه الفلاحين والكادحين. ولذلك اصرار محفوظ على التمسك بكتابة بالفصحى بغض النظر عن ملائمتها ليس محض قرار جمالي خاطئ بل يكشف عن ان منظوره الفني محصور بمنظوره الطبقي. توفر العامية أداة لتصوير احساس الشخصيات بشكل حقيقي واضافة الى ذلك تتيح الى الكاتب امكانية التماهي مع دنيا البروليتاريا. ولكن لا نسمع اصوات عامية في الرواية ولذلك لا تصادف ان لا نرى طبقة الدنيا ايضاً ومع ان خلفية الرواية زقاق المدق “الحي الشعبي الأصيل” (أنيس ١١٣) فكل الشخصيات المركزية هي من الطبقة البورجوازية الصفيرة مثل كرشة صاحب المقهى ولا نجد أي تمثيل من الطبقة العاملة المصرية. وهذا بمقارنة مع الكاتب الشرقاوي الذي يصور حياة القرية في روايته “الأرض” و يستخدم العامية للحوار بين الفلاحين بشكل واقعي.
جملة القول هنا ان الخط بين الاعتبارات الجمالية والاعتبارات السياسية في عيون الناقد الملتزم ليس واضح فيما يتعلق بالنوع اللغوي المناسب للأعمال الأدبية لأن الخيار بين الفصحى والعامية تقتضى الورطة في النقاش حول قدرة شكل اللغة على تصوير مضمون الواقعية الاجتماعية فاذا يرفض محفوظ استخدام إلا الفصحى في روايته لا ينجح في تصوير الكمال الاجتماعي ولذلك يفشل في كتابة رواية واقعية كما هو مفهوم بحسب تعريف أنيس والعالم.
النظرية: سلامة موسى وأدب للشعب
كان سلامة موسى واحد من أول الاصوات الاشتراكية في مصر ولذلك أثر على جيل المفكرين التقدميين في العالم العربي ومهد الطريق للنقاش حول الأدب الملتزم. ولم يقتصر نشاطه الى مجال الفكر فقط انما ساهم في القضايا السياسية الراهنة وحتى ساعد في تأسيس حزب اشتراكي في مصر في السنة ١٩٢٠، وهذا عدد العقود قبل ذروة حظوة الافكار الاشتراكية في المنطقة. نُشر كتابه بالعنوان “الأدب للشعب” في سنة ١٩٥٦ عندما كانت شعبية أفكار حركة الأدب الملتزم في قمتها ومع ان كتب سلامة موسى هذا العمل النظري ٤٦ سنة بعد انتشار أول كتابه فاحتوى أحثد الأراء وأشد التبصر. يتناول موسى موضوع التراث وكما هو المستحسن لأي طالب مجتهد في المذهب الماركسي يحاول يشرح الأدب الموروث من داخل السياق التاريخي. يزعم موسى ان التراث ليس ديوان خالد يمثّل تمدن العرب بشكل شمولي لا غبار عليه انما هو نتاج وضع تاريخي وسياسي معين “يألفه الكتّاب والشعراء لأجل الخلفاء والأمراء والفقهاء” (موسى ٩١).والقيم الاخلاقية موجودة في هذه الاعمال الادبية في الحقيقة قيم لطبقة معينة لم يأخذ بعين الاعتبار اراء “الشعب” أو حتى أية طبقة خارجة البلاط ولذلك ينبغي على أي كاتب معاصر يزعم ان يمثّل المجتمع ككل ان يتجنب السجود امام التراث بتقوير والتقليد فيما يتعلق باسلوب الكتّاب الكلاسيكيين بدون ان يدرك انحيازهم الطبقي وطبيعتهم النخبوية. ويجب ان الكاتب المعاصر يحارب في سبيل الشعب، وقبل كل شيء هذا يعني انه “ إذا كان يحب الشعب، فإنه يكتب له في بلاغة شعبية” (موسى loc 150). وهنا نستطيع ان نرى مرة آخرى المقارنة بين المنظور الطبقي ونمط الكتابة لأن يتطلب تمثيل الشعب الانتفا ع باسلوب لغاته. بدلاً من المعنى التقليدي لكلمة “بلاغة” التي تشير الى الاسلوب موجود في اعمال الأدب الكلاسيكي، فبالنسبة لسلامة موسى البلاغة شيء يعكس روح الشعب ويقول “أن الأدب العامي إذا كُتب بإخلاص فإنه يرتفع على الأدب الفصيح البليغ إذا كُتب للملوك والأمراء” ( موسى loc 159). إذن هناك علاقة جوهرية بين إخلاص الكاتب وجمال كتابته: “وكثيراً ما أجد الأسلوب المطهم مع المعاني الجوفاء، فأفهم من ذلك أن الكاتب قد استعار الكلمات والعبارات، وكان هذا اهتمامه الأول…فهو سترة مطهمة فوق شخص ليست له شخصية” ( (loc 287 البلاغة كامنة في الرسالة ولا في الاسلوب فأحسن الأدب هو ما يصور الواقع بلغة ذات اصالة بالنسبة للشعب. وهذا النوع من اللغة على وجه التحديد هو اللغة الوضوحة.
يقول موسى ان للفرنسيين عبارة لهذا النوع من اللغة الوضوحة وهي “ما ليس واضحاً ليس فرنسياً” لأن الوضوح هو المنطق، والكاتب الواضح هو الكاتب الفاهم، وعندما يفهم الكاتب يفهم القارئ.” (موسى loc395) ولغة الصحافة أحسن المثال لهذه اللغة الوضوحة فالصحف المعاصرة هي نموذج اللغة الشعبية كما كان التراث نموذج اللغة النخبوية. ولذلك يجب ان يكون الأدب المعاصر وضوحاً مثل الصحيفة لكي تواصل الشعب وهذا يحتاج الى خلق لغة جديدة بواسطة نزل الكاتب الى الشعب قبل ان يرفعه وهدم الحاجز الذي يفصل الشعب والأدب. والشيء الأهم في كل هذه العملية هو ليس ان الأدب يكون سهل او صعب انما ان يكون شيء مألوف بين الشعب، يعني ان يتكلم الأدب بلغاتهم.
ومغزى نظرية سلامة موسى هو ان الربط بين اسلوب اللغة والرسالة السياسية التي تُعبر بها ربطاً جوهرياً وهذا لأن الشكل اللغوي نفسه المضمون السياسي. عبادة اللغة الفصيحة والميل الى العبارات المطوسة هي علامات الصوت النخبوي بينما الوضوح والاسلوب المباشر يليق بالديموقراطية وصوت الشعب من كثرة ما العامية تليق بتعبير عن طموح الشعب وحتى بكتابة الأدب الملتزم. مستحيل ان تكون العامية شيء فاحش وهي صوت الشعب النبيل.
الأدب: لويس عوض والشعر التجريبي
كان لويس عوض من بين هؤلاء المفكرين الذين قبلوا دعوة سلامة موسى لكسر قيود التقليد ولخلق أدب جديد يعكس صوت الشعب. تأثر عوض بأفكار موسى اضافة الى افكار الاشتراكية في العالم العربي واوروبا ولعب دوراً مركزياً في ترويج المذهب الماركسي في الاربعينات بانتشار مقالات وكتب وترجمات وأعمال أدبية إبداعية (Istaaif 161). وفي كل كتاباته، بغض النظر عن إذا كانت إبداعية إو نقدية، نرى التزامه الثابت برؤيا الاشتراكية.
مثلاً، نستطيع ان نعتبر ديوانه الشعر التجريبي بعنوان “بلوتولاند” محاولة لدمج روح الحداثة الثقافية في أوروبا مع أدب المعاصر في العالم العربي تساهم في تهديم هيمنة التراث النخبوي التي قد سيطر على الشعر حتى بداية القرن العشرين. لو كانت افكار عوض السياسية متأثرة بالحركة الاشتراكية فكان جانبه الفني مستوحى من حركة الشعر الحديث وتشمل كثير من القصائد في “بلوتولاند” تلميحات الى شعر بودلاير و تي اس اليوت وفرلين وغيرهم. ولكن قبل الشروع في الكتابة عن موضوع الحرية الفردية والتجريب بالنماذج السريالية، يجب ان يلاقي الكاتب صوته الأصيل الذي يتيح له “مزيد من الصدق في التعبير عن ذواته”. يقول عوض ان تثبت الخبرة الاوريبية علي استحالة التعبير الفردي بدون كسر قيود التقليد. لا حد في اوروبا يحاول يعبر عن الحالة الحديثة بواسطة السونيتات الكلاسيكية فلماذا هو من المتوقع ان يحدد الشاعر العربي الحديث نفسه الى استخدام قوالب الاسلاف وحساسية السوابق؟ ولا حد في اوروبا يستمر في تأليف قصائده باللاتينية فلماذا يصمم الشاعر العربي على استخدام الفصحى؟ ففي مقدمة ديوانه يتحدث عوض عن تاريخ تطور اللغات في اوروبا من اللاتينية ويقارن هذه التجربة مع تاريخ الفصحى وعلاقاتها مع اللهجات القومية في العالم العربي. إن الشعر الاوربي حي وقريب من حساسية الشعب المعاصر بينما “مات الشعر العربي. وحقيقة الحال أن عمود الشعر العربي لم ينكسر في جيلنا، وإنما انكسر في القرن العاشر الميلادي” (عوض ١٠) فإذا يريد العرب ان ينعش شعرهم الحبيب فيجب ان يلتفت الى شعار الشاعر المشهور فرلين “امسك البلاغة واكسر رقبتها”. كما راينا في كتابة موسى، قد اصبحت البلاغة عقبةً في التعبير الأصيل والفصحى وقراً فوق اكتاف الكاتب فاعتقد عوض ان أحسن الاداة في ذخيرة الأديب ليعبر عن شعوره الحميمة بشكل مستقل هي العامية. والدليل على ذلك هو أن عوض يألف بعض القصائد في ديوانه بالعامية المصرية وهذه القصائد مفسدة القدسية الشعرية ليس فقط بواسطة اسلوبها أنما أيضاً بواسطة رسالتها الوقيحة. على سبيل المثال:
Malediction
خمسين سما فوق راسي
ما فهاش اله يسمع لي.
ادينى أى كنيسه
أدوسها تحت نعلى.
يارب اصفح عنى
اللعنة راح ترجع لى.
بالنسبة لعوض وموسى يحتاج المجتمع الحديث الى ثورة أدبية ولغوية من أجل الحرية والاستقلال الانساني. اصلاح اللغة التي تُستخدم في الأعمال الأدبية هو مهم على نفس القدر ان الالتزام السياسي في مضمون الأعمال الأدبية مهم. كل كلمة عامية وكل عبارة شعبية مشحونة بالأهمية السياسية. اعتبر عوض نفسه صوت الطليعة الثورية في مصر وكان يتخيل الشاعر في المجتمع المستقبلي تكاتفاً مع كل عمال مصر في استخدام العامية
الخلاصة
خمسين عاما بعد انتشار ديوان “بلوتولاند” نشر لويس عوض مقال يشترك خواطره عن مشروعه التجريبي القديم. يعترف بفشل مشروع الأوسع لتحرر المصريين من قيود التقليد الفكري والأدبي ويقول: “ولكن تاريخ الشعر العربي في مصر على الأقل قد أثبت في نصف القرن الأخير أن التحرر والجمود في اللغة والعروض وكافة القوالب والمضامين الأدبية والفنية هو الوجه الآخر للتحرر الاجتماعي في السياسة والاقتصاد والقانون وكافة مظاهر التنظيم الانساني. حتى الفوضى هي الفوضى والارهاب هو الارهاب في كلا الوجهين ولا فرق هنالك بين مجتمع يرفض ان يتطور وادب يرفض ان يتطور” (عوض ١٤٧)
كثير مننا نبقي مفتوناً بعصر الأدب الملتزم لأنه يمثّل زمان قدّر العرب ثقافتهم بشكل جذري ورفضوا كل الافتراضات حتى الافتراضات عن طبيعة لغتهم. كما راينا في عدد من القراءات لهذا الكورس، في صدد تهديم عمود الركود والجمود من أجل قيم التنوير والتقدم اعتمد المفكرون العرب على روح التشكيك اضافة الى الحماس السياسي الضروري لواجه المقاومة المحتومة من جانب قوات الرجعية. فلا نستلوم إذا نفشى بحنيننا لهذا العصر بمقارنا مع عصرنا الراهن الذي يفضّل الاوهام بدلاً من الحق ويأخذ الخيالات فقهاً، وناهيك عن التقدم في اتجاه ايجابي من أساس الفكر الليبرالي المتواضع. غير ان موضوع اللغة والأدب لا يزال ذات صلة للمجتمع العرب. والدليل على ذلك هو أن هناك جيل جديد من المفكرين والأدباء الذين يحاربون لأجل عربياً حياً ويبذلون جهدهم الابداعي لأجل خلق أدب ملتزم جديد ويساهمون في مناقشات حول السياسة واللغة والاختلاف الوحيد هو واسطتهم: يكتبون في مجلات القصص المصورة، ويناقشون على بلوقهاتهم ويخاطبون في حفلات الراب. يجب فقط ان نتجنب إغراء الحنين وعادة اعتبار فقط بعض انواع الأدب جديراً بالاهتمام واساليب معينة بلاغةً. بل يجب ان نمسك البلاغة واكسر رقبتها.
قائمة المصادر
Anīs, ʻAbd Al-ʻAẓīm., and Maḥmūd Amīn. ʻĀlim. Fī Al-thaqāfah Al-Miṣrīyah. Cairo: Dār Al-Thaqāfah Al-Jadīdah, 1989. Print.
ʻAwaḍ, Luwīs. Blūtūlānd: Wa-qaṣāʼid Min Shiʻr Al-khāṣṣah. Cairo?: Al-Hayʼah Al-Miṣrīyah Al-ʻĀmmah Lil-Kitāb, 1989. Print.
Isstaif, Abdul-Nabi. "Forging a New Self, Embracing the Other: Modern Arabic Critical Theory and the West--Luwīs 'Awad." Middle Eastern Literatures 5.2 (2002): 161-80. Web.
Klemm, Verena. "Different Notions of Commitment ( Iltizam ) and Committed Literature ( Al-adab Al-multazim ) in the Literary Circles of the Mashriq." Arabic & Middle Eastern Literature 3.1 (2000): 51-62. Web.
Mūsá, Salāmah. Al-Adab Lil-shaʻb. Cairo: Salāmah Mūsá Lil-Nashr Wa-al-Tawzīʻ, 1956. Kindle Version.
Comments