وهم الإبداع
ايه شو يعني؟ يعني، وماذا في ذلك؟ لسبب ما، هذا هو السؤال المتهكم الذي انبثق عندما واجهنا تلك الافكار السامية والنظريات التأملية في صفنا هذا الإسبوع، مهما تدور المناقشة حول العلاقات بين الشرق والغرب بحسب الأدباء العرب في بداية القرن العشرين ، او حول التجربة الحسية للفرد الذي يعيش في بيئة التشاؤم في العصر الليبرالي الجديدة كما يصفها أحدث كتاب من لورن برلانت عن نظرية "العاطفة" (آفكت ثيري). نحن الطلاب نرى الى هذه النصوص بعين الشزراء ونسأل: كيف يختلف هذا عما قيل في الماضي؟ هل هناك فعلاً شيء جديد وراء كل هذه المصطلحات المبهمة والتفسيرات الثاقبة، او هل تمثل هذه الكتب والمقالات، بحسب قول الأستاذ كارل بلايث في قسم اللغة الفرنسية، "نفس الخمر في زجاجة جديدة؟" نحن، كورثة روح التفكيك وبالصراحة أكثر من اللازم من التهكم، لا نقتنع بالرسالة بمجرد بلاغتها ولا نقبل الآراء إلى أنْ تستكين لتقديرنا. الفكر بدون الإبداع هو تكرار في أحسن الأحوال و سرقة في أسواء الأحوال. لذلك انبثق السؤال "اي شو يعني" مرة أخرى في صفنا هذا الإسبوع بعد أن قرأنا أجزاء من كتاب "بيان الحداثة" من أدونيس بغض النظر عن أنّ هذا الكتاب كان جزء من مشروع بذل أدونيس ٤٠ سنة من حياته في إكماله، فرد الفعل التلقائي بالنسبة لنا كان "ايه شو يعني؟ ما الذي يوفره تصور أدونيس عن معنى وأبعاد الحداثة ولا توفره اية نظرية اخرى عن الـ"مديرنيتي"؟
ولكن النظرية ليست قوية بسبب تميزها المطلق او إبداعها الجذري بالمقارنة مع النظريات الأخرى وليست قيمة التصور النظري - إذا اردنا أن نلجأ إلى تعبير أدونيس نفسه - كامنة في "المغايرة" فحسب. قد تكون الكتابة النظرية فعّالة بمجرد استخدامها المفاهيم الجديدة من أجل توضيح موضوع مألوف او ترجمة الافكار الغامضة الى لغة مبينة. كما نشاهد في كتاب "قراءة دروين بالعربية" من مروى الشكري، تداول الافكار ما بين المجتمعات ليست فقط عملية الاقتباس والتقليد إنما الترجمة الثقافية هي استخلاص الافكار من مجتمع وتعديلها بحسب الشروط المعينة في المجتمع الآخر. على سبيل المثال، عندما جاءت نظرية دروين إلى الشرق الأوسط، دخلت الفكر العربي بواسطة الإشارة الى تراثه الأدبي. وبدلاً من أن يقدم إسماعيل مظهر وهو أول مترجم لداروين نظرية التطور الطبيعي بواسطة ترجمة خليصة للنص الأصلي، نراه يشرح النظرية الجديدة بالقياس الى تصنيف الحيوانات كما يوجد في "كتاب الحيوان" من الجاحظ و تصور ابن خلدون لتطور التمدن. وبالاضافة الى الاشارة الى امثلة في التراث الأدبي العربي، الاستفادة من الخصائص المميزة الموجودة في اللغة نفسها هي مهمة ايضاً في كتابة عمل النظرية الفائقة. ومثلما لعب هايدغر مع اللغة الألمانية من أجل خلق مصطلحات أصلية لنظامه الفكري البديع ـ Lichtung و Dasein مثلاً - ، يستغل أدونيس منطق الاشتقاق العربي لكي يخلق مفاهيم مثل "المغايرة" و"المماثلة" التي هي تجريدية ودقيقة في نفس الوقت.
تكمن جودة التصور الفكري الذي يستعمله أدونيس في ملائمة مفاهيمه لمنطق اللغة العربية، والتفاعل فيما بينها بشكل جدلي. أقصد بذلك أن لغة "بيان الحداثة" ذات منطق مستقل وأصالة بالنسبة لتاريخ الفكر العربي. لا ينوط نظامه الفكري بخطاب غربي - بالاستلاف من معجم المفكرين الاوروبيين - بل بأسلوب التراث الفلسفي العربي بكل صحته وبصيرته. يشبه بيان الحداثة بأسلوبه التجريدي وبمفاهيمه الشبه ميتافيزيقية الأعمال الفلسفية من العصور الوسطى مثل ابن رشد او الغزالي اكثر مما يشبه كتب النظرية النقدية المعاصرة مثل أدورنو الذي تناول أيضاً سؤال معنى الحداثة في كتابه "جدلية التنوير". وحتى لو لاحظنا تماهي كتابة أدونيس مع أسلوب الكتابة الفلسفية الكلاسيكية فهذا لا يعني ان افكاره قديمة او تقليدية كما هو صحيح ان الكتابة المعقدة التي تتحجب افكارها بالمصطلحات المبهمة مثل overdetermination و convergence ليست حديثة. إذا اردنا أن نلجأ إلى تعبير أدونيس مرة أخرى فنستطيع ان نقول ان الكتابة النظرية لا تكتسب "حداثة بالضرورة، من مجرد زمنيتها وإنما الحداثة خصيصة تكمن في بنيتها ذاتها."
وعلى الرغم أن أدونيس ينوي تصميم إطار من أجل تقدير حداثة الشعر، فأتمنى بانه بات واضحا من الفقرات السابقة بأن نظامه ملائم لتقدير الكتابة النظرية أيضاً. كتابة أدونيس النظرية هي كتابة حديثة جداً لأنها لا تورط نفسها في تفاصيل المناقشات في الغرب عن معنى الحداثة، ولا تلجأ إلى إفكار المفكرين العرب فيما يتعلق بارائهم عن الشعر الحديث، ولا يتخلّى أدونيس عن استقلاله الفكري بواسطة الاعتماد على نماذج الآخرين. كما يقول أدونيس "الإبداع هو التحقيق دون نموذج. الإبداع نموذج ذاته." أدونيس مفكر حديث لأنه يخلق نظام نظري بدون التماثل مع خطابات أخرى ولأنه يتحدث بأحدث اللغة: اللغة التي يخلقها هو نفسه. فعندما نسأل "ايه، شو يعني" يجب ان ندرك اننا - لو اردنا ان نلجأ إلى تعبير أدونيس مرة أخيرة - نتوهم وهم الزمنية والمغايرة والمماثلة في ان معاً.
Comments